• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

السقوط العربي: هزيمة ذاتية أم واقع مفروض؟

د. لبيب قمحاوي

السقوط العربي: هزيمة ذاتية أم واقع مفروض؟

من الخطأ الاعتقاد والتصرف وكأن العرب قد وصلوا إلى طريق مسدود وأن لا حل أمامهم سوى الانتحار السياسي أو الاستسلام الكامل لإرادة القوي أو القبول القـَدَري بما هو آت وكأنه أمراً لا مفر منه. فالشعوب والأُمم كالإنسان لها دوراتها الخاصة بها، فهي تتناوب بين صعود وهبوط، كما أنّها تتقدم وتتأخر وأحياناً تسود وأحيانا أخرى    تبيد. إنّها باختصار دورات تمر بها الأُمم والشعوب تماماً كما يمر بها الأفراد.

من الخطأ أيضاً أن ننظر إلى الغير كمثال يُحتذى وأن نطالب أنفسنا أو نقبل بأن يطالبنا الآخرون بالبدء من حيث انتهوا هم. فكلّ شعب له تجاربه الخاصة به وآماله وطموحاته التي يسعى إليها وتضحياته التي دفع ثمنها وأحلامه التي يعمل على تحقيقها بغض النظر عن موقف الآخرين منها، إذ من الطبيعي أن تتعارض المصالح بل وتتضارب بين شعب وآخر وأُمة وأخرى. واندحار الأُمم وسقوطها هو إمّا نتيجة لفشل أو تخبط الأنظمة التي تحكمها، أو ترجمة لفشل الشعوب في اختيار الأنظمة التي تحكمها أو تغييرها والتخلص منها فيما لو أظهرت فشلاً واضحاً في قدرتها على قيادة شعوبها والحفاظ على مصالح تلك الشعوب. والأمر المحزن هو أنّ التاريخ الحديث للشعوب العربية عبارة عن عملية صراع مستمرة  بين الأنظمة والشعوب، تسعى من خلالها الأنظمة لتطويع الشعوب، والشعوب لتغيير الأنظمة، عوضاً عن تكريس الجميع لطاقاتهم من أجل النمو والتطور ومواكبة الحداثة بأشكالها المختلفة وبما يحقق متطلبات الارتقاء بالمجتمع إلى مصاف المجتمعات النامية والحديثة.

المبدأ إذاً بسيط في منطلقاته الذاتية والمحلية وقد يكون معقداً في واقعه الاقليمي أو الدولي. البوصلة الأساس هي التي تؤشر على مقدرة الشعوب على استيعاب دورها ومسؤولياتها في تحديد ثوابتها ومصالحها وفي قدرتها على الحفاظ على تلك المصالح وتقديم ما قد يلزم من تضحيات من أجل ذلك. إنّ وضوح الرؤيا يرتبط في أحيان كثيرة بالقدرة على تحديد المسار. وحماية المصالح قد يتطلب في الكثير من الأحيان أنماطاً مختلفة من التضحيات. وغياب الاستعداد للتضحية يعكس نمطاً من الجهل أو الأنانية لدى الشعوب التي لا تريد أن تضحي لحماية مصالحها وهذا هو الطريق الأمثل للسقوط والانتحار وبالنتيجة الاندثار أو الخضوع لسلطة شعوب أو أُمم أخرى ناشطة وعلى استعداد للتضحية من أجل الدفاع عن مصالحها.

العرب لم يتصرفوا كأُمة تجمعها مصالح متعددة هامَّة وإستراتيجية، بل كشعوب تتنازعها خلافات صغيرة وأحقاد شخصية بين الحكام أضعفت من قدرتهم على رؤية المصالح الكبيرة التي تجمعهم معاً كشعوب وضرورة اهتمامهم بها كخيار إستراتيجي. وهذا النمط من الأنانية القاصرة تعود في حقيقتها إلى خضوع تلك الشعوب لأنظمة حكم مستبدة حصرت مصالح شعوبها فيما يخدم مصالحها الضيقة ويبقيها كأنظمة حاكمة، وليس فيما يخدم شعوبها من مصالح أكبر من ذلك. وهكذا تحولت المصالح الكبيرة إلى كبش فداء لأنظمة معظمها صغير وأناني تسعى بشكل مستمر للبقاء في السلطة بأي ثمن ومهما كانت الوسيلة.    

إنّ شراء الصداقة والدعم من خلال دفع الأموال لا يشكّل المدخل الصحيح لإنشاء علاقة متكافئة ومتوازنة كون الأجدى أن يتم العمل على خلق مصالح مشتركة تجعل من تقديم الدعم المتبادل أمراً منطقياً وحتمياً للأطراف المعنية كافة وبشكـل متكـافئ، وهو ما يشكّل المدخل الصحيح للعلاقة الندﱢية والسليمة بين الشعوب والأُمم. وعندما تفتقر أُمة من الأُمم إلى الرؤيا الواضحة لمصالحها الوطنية التي يقف تفسير معناها عند أقدام الحاكم، وعندما يفتقر الحاكم نفسه إلى أي رؤيا وطنية باستثناء مصالحه الخاصة، وعندما يفتقر ذلك الحاكم إلى أي أدوات وطنية لترجمة مصالح الوطن الذي يحكمه، يصبح توزيع الأموال والكنوز هي الوسيلة الوحيدة لاستجداء الدعم من الآخرين الأقوياء. وهكذا، فإنّ الشعوب التي تستسلم لإرادة الحاكم المستبد تنمو لديها بالنتيجة نزعة الاستسلام والاستعداد للقبول بالأمر الواقع حتى لو كان ذلك الاستسلام مفروضاً من قبل قوى متنفذه وقادمة من خارج الوطن تجاهر بدعم عدو العرب الأوّل إسرائيل، كما شاهدنا مؤخراً وخلال زيارة الرئيس الأمريكي ترمب للمنطقة، والكنوز والمليارات التي أُغدقت عليه وعلى أمريكا.

إنّ فشل العرب في استغلال إمكاناتهم الجيوسياسية والنفطية لدعم مطالبهم ومصالحهم الوطنية نتيجة لضعف وأنانية الأنظمة الحاكمة قد يكون مسؤولاً عن التدهور المتواصل في وضع الأُمة العربية والانهيار القائم في العديد من دولها.

سلوك الشعوب هو بالنتيجة محصلة لعملية تاريخية وتراكمية تتأثر بما مَرﱠت وتمر به من تجارب ومصاعب وكوارث وإنجازات تؤدي بالنتيجة إلى صقل سلوكها سواء سَلباً أم إيجاباً. وفي الواقع من الصعب إعطاء ذلك أي صفة معينة وبشكل حتمي. فالعرب لا يتصرفون بنمطية واحدة تصبغهم وتـُضفي عليهم صفة مشتركة قاطعة، ولكنهم طـَوﱠروا بعض الخصائص العامة التي ميزت سلوكهم بشكل عام ابتداءاً من العقود الثلاثة الماضية. فالعرب مثلاً أقسى على بعضهم البعض منهم على الغريب أو الأجنبي. وإذا ما اقتتلوا فيما بينهم، فإنّ قسوتهم ودمويتهم تدعوا إلى الدهشة مقارنة باستسلامهم لحكّامهم وضعف إرادتهم أمام المعتدي الأجنبي. فما يجري في اليمن وسوريا وليبيا وما جرى في العراق هي أمثلة على ذلك. وما جرى في لبنان وحربه الأهلية في الفترة ما بين 1975-1990 كان أيضاً مثالاً على ذلك.

النمطية التي ترافق مفهوم "طاعة أولى الأمر" خلقت لدى الشعوب العربية استعداداً فطرياً للانصياع لما هو قادم من أعلى، ووصم أؤلئك اللذين يرفضون الانصياع بالمارقين والخارجين. كلام عجيب غريب يعكس استسلاماً للمعلوم وللمجهول من نزوات وسلوكيات أولي الأمر وبشكل يخلو من المنطق. واصطلاح المارقين يتم استعماله من قبل النظام وأتباعه لوصف الخارجين عن طوع النظام واللذين يتم التعامل معهم باعتبارهم "خارج الصندوق" وليس باعتبارهم مواطنين لهم حقّ تبني وجهة نظر مختلفة.

إنّ فرز المواطنين بين مطيعين وخانعين للنظام وهم اللذين يتمتعون ببعض الحقوق السياسية من جهة، وغير المطيعين "المارقين" المحرومين من حقوقهم السياسية من جهة أخرى، هو أمر مؤسف ساهم في إضعاف بنية المجتمع السياسية وتطوره نحو الأفضل. وهكذا يبدو أنّ اعتبار "الرأي الآخر" أمراً نشازاً وممنوعاً ويشكّل أساساً للعزل السياسي لصاحبه ومبرراً لتوجيه التهم المختلفة له، قد أصبح صفة ملازمة لواقع الحال السياسي العربي تحت حكم معظم الأنظمة العربية.

إنّ ارتباط حُقبة الاستقلال الوطني ونشوء الدولة بنظام حكم ما واستمرار ذلك النظام في السلطة، من شأنه أن يُولـِّدُ ارتباطاً باللاوعي الشعبي يربط الاستقلال الوطني ونشوء الدولة بذلك النظام، واعتبار أنّ ما يهدد النظام يهدد الاستقلال ووجود الدولة نفسها، والأردن  قد يكون أصدق مثال على ذلك. وفي حالات أخرى يرتبط اسم الدولة وهويتها الوطنية السياسية باسم العائلة الحاكمة مثل المملكة العربية السعودية. فالمواطن في المملكة السعودية مثلاً إمّا أن يكون سعودياً أو لا شئ! وهكذا يتم اختزال الوطن أو الهوية الوطنية بشخص واحد أو عائلة واحدة لتصبح كنية العائلة الحاكمة هي الهوية الوطنية التي يـُعَرﱠف بها المواطن كفرد والشعب كشعب والدولة كدولة، وفي هذا قِمـَّة التسلط والاستبداد.

إنّ ما يجري الآن في الخليج قد سبب الضيق لمعظم العرب، إلّا أنّ الكثيرين لم يُعطوا هذه الأزمة ما تستحقه من فـَهْمٍ واستيعابٍ لحقائق الأمور بعيداً عن التجليات العاطفية والمواقف مسبقة الصنع أو التحاليل السطحية التي تفتقر إلى القدرة على استيعاب أو استشراف حقيقة ما يجري وآثاره على دول المنطقة وعلى الأقليم بشكل عام، والاكتفاء الساذج الخاطئ باعتبارها أزمة بين دول الخليج واعتبار آثارها محصورة بهم  حكماً.

وفي الواقع، فإنّ ما يجري الآن في الخليج هو أحد العناوين الفرعية لما يجري في المنطقة بشكل عام. والعنوان، وإن كان خليجياً، إلّا أنّ نتائجه سوف تتجاوز منطقة الخليج بإطارها العربي لتؤثر على طبيعة الإقليم وعلى الدول الإسلامية الرئيسية فيه مثل تركيا وإيران، وكذلك على ما يحيط بمستقبل المنطقة من غموض أقل ما يمكن وصفه بأنّه الغموض المرافق لإعادة تقسيم المنطقة ودولها طبقاً لإرادة ومصالح الدول الكبرى وأهمها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي.

أزمة الخليج سوف تكون المدخل لتدمير دُوَلـِهِ أو تقسيمها خصوصاً السعودية وإلى التطبيع العلني الكامل مع إسرائيل كحليف إقليمي. ومع أنّ ذلك يجري بأيدٍ عربية إلّا أنّه يتم بإيحاء خارجي وبإرادة أجنبية تمهيداً لإعادة تقسيم العالم العربي طبقاً لمصالح الدول الكبرى وبغض النظر عن مصالح شعوب المنطقة أو رغباتها.   

قد تكون نجاة الأردن في صِغـَرِهِ وفـَقـْرِهِ وأهميته التي يعكسها موقعه الجيوسياسي ودوره الذي ارتبط تاريخياً بأمن اسرائيل، وامتد الآن ليشمل تقديم التسهيلات اللوجستية للجهد العسكري للدول العاملة على إعادة رسم حدود دول المنطقة وتقسيمها. إنّ استعمال الأردن كقاعدة عسكرية ولوجستية لأمريكا ودول الغرب في سعيهم لتحقيق تلك الأهداف لم يعد بالأمر الخافي على الجميع. ومن المؤسف أنّ الواقع يؤكد أنّ رعاة ذلك الدور أقوى من أن يوقفهم أحد بما في ذلك الأردن. فجميع الأطراف، على ما يبدو، خاضعة لإرادة الأجنبي سواء بالاختيار أو بالإكراه.

إنّ المعرفة هي بداية الطريق إلى النور. ووعينا المتجدد لواقع حالنا، ومعرفتنا بالخطايا التي نرتكبها والأخطاء التي نكررها، وضُعفـَنا الذي لا يمكن تبريره، وأنانيتنا التي تمنعنا من التضحية، قد تكون بداية الطريق نحو التغيير إلى الأفضل. 

ارسال التعليق

Top